وسط الصراع الذي يجري الآن في مصر بين أجهزة الدولة بقيادة الحكومة المدعومة من الجيش، وبين الإخوان والتيارات الإسلامية المناصرة لهم، هناك صراع محوري جداً على المساجد ومنابرها.
الخطب والدروس الدينية والأنشطة الخيرية والتنموية التي تتخذ من المساجد مركزاً لها هي إحدى ساحات نفوذ التيارات الإسلامية بتنوعاتها، وهي أيضا إحدى ساحات تأكيد شرعية النظام السياسي في مصر عبر الإدارة الحكومية المباشرة لعدد من المساجد، أو الإشراف على عدد آخر، عن طريق وزارة الأوقاف. ولطالما شهدت هذه الساحات صراعات قوى ونفوذ بين النظام ورجاله في المؤسسة الدينية الرسمية وبين التيارات الإسلامية. والآن تتخذ وزارة الأوقاف قرارات وسياسات مشددة تهدف إلى إحكام سيطرتها حصرياً على كل هذه الشعائر والأنشطة في ظل حملة أمنية واسعة ضد كل أنشطة التيارات الإسلامية، باستثاء حزب النور السلفي الموالي للحكومة.
وفق القانون فإن كل المساجد يجب على الأقل أن تعمل تحت إشراف وزارة الأوقاف، والإشراف هنا يعني إصدار ترخيص من الوزارة لكل خطيب أو محاضر إو إمام يتولى إقامة الشعائر، ويعاقب من يخالف ذلك بالغرامة أوالحبس. وأعطى القانون لوزارة الأوقاف الحق في ضم كل المساجد إلى إدارتها المركزية وهو ما يعني التعيين المباشر للأئمة والخطباء والمحاضرين في كل المساجد.
وفق القانون، فإن كل مبنى أو أرض تم تخصيصها لتكون مسجداً فهي تخضع لإدارة أو إشراف وزارة الأوقاف، وغير مسموح لأية طائفة أو مجموعة دينية أن تنشئ مسجداً وتديره وتمارس فيه الشعائر والدعوة الدينية بعيداً عن إشراف الوزارة. وتصريحات وزراء الأوقاف المتعاقبة (باستثناء وزير حكومة الإخوان) أن الدولة لن تسمح بوجود أي مساجد مخصصة لطوائف أو تيارات وأن كل المساجد في مصر يجب أن تتبع إدارة أو إشراف الوزارة وفق الإسلام السني "الوسطي" الذي يعبر عنه المنهج الفكري للأزهر، وأن الدولة لا تسمح بوجود مساجد شيعية أو تتبع أي مذهب آخر أو أي تيار إسلامي سياسي.
وزير الأوقاف في حكومة الإخوان اعترف ضمنياً بأن كل الميول الدينية، بما فيها الاتجاه السلفي والمدرسة الإخوانية، هي كلها داخل عباءة الإسلام الوسطي، لكنه أكد على رفض وجود مساجد شيعية، أو أشار إشارات سلبية إلى ممارسات بعض الطرق الصوفية ووصفها بالبدع والمنكرات، وقال إن الوزارة لن تدعم هذه الممارسات وإن كان لم يشر صراحة إلى حظرها.
على خلاف ما يقرره القانون ويصرح به الوزراء، فإن الواقع يحفل بالتعدد بشكل ما، وإن الدولة لا تستطيع بسط سيطرة إدارتها المباشرة على كل المساجد ولا حتى إشرافها، وأن هناك العديد من المساجد هي تحت إدارة التيارات الإسلامية السياسية وجمعيات إسلامية دعوية وخيرية مستقلة (ذات علاقات متفاوتة بالتيارات الإسلامية) وأيضاً تحت سيطرة عائلات وتجمعات محلية غير منظمة من أهل الجوار الذين يديرون مسجد الحي أو القرية، وتحت سيطرة أفراد ينشئون المساجد ويتولون تمويل أنشطتها وإدارتها.
ولكن هذا التعدد تولاه بالأساس، حتى انطلاق ثورة يناير 2011، الأجهزة الأمنية التي كانت تغض الطرف عن المساجد التي يتم إدارتها بشكل أهلي أو عائلي، أو عبر جمعيات غير مثيرة للقلق سياسياً، وتمارس سياسات تفاوضية مع الجمعيات الكبيرة التي تقوم بدور خيري لافت خاصة في الأوساط الفقيرة لتتأكد من أنها لن تكون رأس حربة للتيارات الإسلامية السياسية، وتسمح بحرية أكبر للتيارات السلفية التي تتبنى عدم منازعة السلطة، وتضرب بقوة التيارات السلفية ذات الميل السياسي أو الجهادي، وتطارد بحزم أي تواجد منظم للإخوان المسلمين في المساجد، وتقوم بذلك بمساعدة وزارة الأوقاف، فكانت الأجهزة الأمنية تشير إلى المساجد، التي يبدأ فيها تواجد لتيارات غير مرغوبة، أو بروز خطباء ذوي شعبية ممن يعارضون السلطة، فتقوم الوزارة بتطبيق القانون، وضم هذه المساجد لإدارتها، أو ترسل إليها خطباء آخرين بترخيص منها.
وفي كل الحالات التي ذهب فيها ممثلو جمعيات أو أفراد من منشئي المساجد إلى القضاء للطعن على قرار ضم المساجد وإدارتها وتذرعوا بأن الدستور المصري يكفل حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية كما أنه يخالف حرمة الملكية الخاصة، فإن القضاء حكم في كل الدعاوى بأن إدارة كل المساجد والأنشطة الدعوية فيها خاضع لوزارة الأوقاف، وقالت إن المساجد هي "ملك لله" وليست في ملك أحد من الأفراد أو الجماعات، ولكن حق إدارتها يعود للدولة.
القانون والأحكام القضائية هنا لا تعترف بوجود جماعة أو جماعات للمسلمين يمكنهم أن يمارسوا شعائر بعيداً عن الدولة. وهذا الوضع القانوني يبدو امتداداً لدولة الخلافة الإسلامية (دولة المسلمين) داخل الدولة الحديثة، حيث جماعة المسلمين هي جماعة سياسية/ دينية، كما بدأت تحت قيادة النبي محمد. وهذا الوضع القانوني وإن كان يفضي كثيراً إلى تمييز وسلطة لصالح "المسلمين" في مجموعهم، لكنه من ناحية أخرى يقيّد قانونياً تماماً أية حرية دينية للمسلمين كجماعات أو أفراد لا يريدون الانضواء تحت نفس التوجه السياسي أو الديني للسلطة.
وكما سبق توضيحه، فإن مساحة الحرية الدينية للمسلمين في ممارسة الشعائر أو الأنشطة الدينية (بعيداً عن إشراف الدولة) كانت دائماً تحت سيف السيطرة القانونية التي يتم استخدامها إن رأت أجهزة الدولة أن النشاط الديني يتضمن دعماً لمعارضة النظام السياسي. كما أن حرية التحول الديني يمكن أن يمارسها المسيحيون واليهود في التحول إلى الإسلام، بينما لا تسمح الأجهزة التنفيذية للدولة أي إثبات لتحول مسلم إلى دين آخر، وأيد القضاء ذلك في أحكام عديدة.
فيما يخص إدارة الدولة للشؤون الدينية، يبدو "المسلمون" كأنهم "الشعب" الموّحد دينياً، تدير حياته الدينية وزارة تتبع الحكومة، التنوع الديني بين المسلمين هو شق لهذه الوحدة الدينية غير مسموح به رسمياً. بينما الطوائف الدينية الأخرى من غير المسلمين هي طوائف تدير أنشطتها الدينية باستقلال داخلي ولكن تحت سلطة الدولة ووفق ما يسمح به "المسلمون". فبناء أية كنيسة لا يزال ينتظر ترخيصاً من رئيس الجمهورية بنفسه، وهذا امتداد لسلطة الخليفة العثماني في التصريح لأية طائفة بممارسة نشاطها أو بناء دار عبادة، وهو الامتداد الذي يؤيده القضاء ويعتبره إجراء قانونياً سارياً ولا تنقضه الدساتير المتعاقبة للدولة المصرية، التي تنص على حرية العبادة والمساواة بين المواطنين بدون تمييز بسبب الدين.
في السنة التي تولى في الرئيس محمد مرسي، عضو جماعة الإخوان المسلمين، تعرضت السياسات الدينية لاضطراب كبير، خاصة في إدارة الشؤون الإسلامية. نظراً لأن جماعة الإخوان وحلفاءها كانوا لتوهم خارج الاعتراف، ويتم اعتبار خطابهم الديني من الميول الدينية غير المسموح بها والتي تشق وحدة المسلمين وتهدد النظام العام.
ولكن مرسي استمر في إصدار تراخيص الكنائس، صرح ببناء كنيسة واحدة خلال عام. واستمرت الحكومة في دعم نفس الإطار القانوني لإدارة الشؤون الدينية بشكل عام، واهتمت الجماعة وحلفاؤها بإحلال رجالها محل رجال النظام (رجال الأزهر) في وزارة الأوقاف مما فجر النزاعات الإدارية والتوتر بين الوزارة وبين مشيخة الأزهر. ولكن في بعض التفاصيل حاولت حكومة الإخوان ممارسة سياسات توافقية لكي لا تفتح معركة كبيرة مع مشيخة الأزهر ولأن التنوع داخل التحالف الحاكم الإسلامي، الإخوان والسلفيين بتنوعاتهم وجمعيات دينية وإسلاميين مستقلين، يقتضي التخفف من بعض السياسات المركزية لإرضاء الحلفاء.
من هذه التفاصيل التي حاولت حكومة الإخوان انتهاج سياسات توافقية بشأنها هي "مجالس إدارات المساجد".
في أوائل الثمانينات، صدر قانون بتشكيل هذه المجالس في بعض المساجد الكبيرة التي يصعب على الوزارة إدارتها وتمويلها وحدها، أو تتعرض لإدارتها فيها لضغوط محلية، فكانت هذه المجالس تضم وجوهاً محلية ورجال أعمال، وتتولى المساعدة في إدارة شؤون المسجد المالية وإدارة بعض الخدمات فيها، وتعاون الوزارة في تطوير النشاط الديني بالاقتراح والمساعدة بدون أن يمس ذلك حق الوزارة في إدارة النشاط الديني والدعوي حصرياً. ورغم ذلك فإن أعضاء هذه المجالس معيّنون بالكامل من قبل الوزارة، وللوزارة حق حل المجلس أو إلغاء عضوية من تراه غير مناسب. وكان للأجهزة الأمنية دور كبير في اختيار وإقرار عضوية أعضاء هذه المجالس لكي لا تضم أعضاء من التيارات الإسلامية.
هذه المجالس في بعض المساجد كان يمكن أن تكون بشكل ما تمثيلاً ما لمجموع المسلمين من رواد مسجد معين، ولكنه تمثيل يمر عبر إقرار السلطة ولكنه أيضاً لا دخل له في النشاط الديني والدعوي، ويقتصر نشاطه على إدارة النشاط الخيري وبعض الأنشطة الخدمية وبعض الخدمات المعاونة لإمام المسجد المعيّن من الوزارة.
ورغم ذلك تم تجميد العمل بمجالس إدارات المساجد في منتصف التسعينات نظراً لمشكلات كثيرة ومنازعات سببتها كما صرح وزير الأوقاف وقتها وقال إن بعض المجالس أرادت أن تمارس نفوذاً أكبر من المصرح لها به. وكانت معظم الاعتراضات من فئة الأئمة وعلماء الدين الذين شعروا أن هذه المجالس تسحب نفوذهم، وأن هناك ما يمس كرامتهم في الإدارة المالية لهذه المجالس التي تتضمن توجيه جزء من تبرعات المسجد للإمام والعاملين بالمسجد.
منذ يناير 2011، وبعد أن توقفت الأجهزة الأمنية عن المشاركة في إدارة الأنشطة الدينية، فإن التيارات الإسلامية بتنوعاتها قد اكتسبت أرضاً جديدة وعادت لتسيطر على عدد كبير من المساجد وأنشطتها الدعوية والخيرية، بل ونازعت على إدارة بعض المساجد الحكومية الكبرى، التي كانت في الأصل تتبع جمعيات ولكن الوزارة استولت عليها وأيدها القضاء.
ومع تولي حكومة الإخوان إدارة وزارة الأوقاف كانت استعادة دور مجالس إدارة المساجد على برنامج حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسية لجماعة الإخوان. وأصدر الوزير طلعت عفيفي قراراً بعودتها تحت اسم "مجالس إعمار المساجد" بصلاحيات مشابهة لصلاحيات مجالس الإدارات القديمة، لا تمس إدارة النشاط الديني والدعوي التي استمرت حصرا للوزارة، ولكن الجانب المثير للجدل في القرار هو أن تكون هذه المجالس بالانتخاب.
يبدو ذلك وكأنه محاولة محدودة للبحث عن "جماعة المسلمين" التي لها رأي ما في اختيار من يدير بعض شئونها الدينية. وللهرب من اتهامات طالت الحكومة بـ"أخونة المساجد" و"أخونة وزارة الأوقاف" وشككت في تعييناتها للأئمة وقيادات الوزارة واتهمتها بمحابة الإخوان وأعضاء التيارات الحليفة لهم. وفي المقابل قال الإخوان وحلفاؤهم إن المواقع التي شغلوها في الوزارة والمساجد هي حق لهم بعد عقود من الاستبعاد، وقالوا إن الدليل هو إقدامهم على جعل مجالس المساجد بالانتخاب لكيلا يتم اتهام الوزارة والإخوان بالسيطرة عليها.
ولكن كيف يمكن تحديد "جماعة المسلمين" التي لها حق انتخاب مجلس هذا المسجد أو ذلك. نص القرار على أن تشكيل "جمعية عمومية من رواد المسجد" من المسجلين رسمياً كسكان الحي الذي يقع فيه المسجد وممن يتقدمون إلى الإمام (المعيّن من الوزارة) ليقر أنهم من الرواد المنتظمين للمسجد ويسجلهم كأعضاء في الجمعية العمومية.
ورغم السلطة الواضحة للإمام المعين إلا أن الاحتجاج الأهم جاء من فئة الأئمة (خاصة البعيدين منهم عن التيارات المنتمية للتحالف الإسلامي المناصر للإخوان) وقالوا إن هذه المجالس ستستثمر من قدرة التيارات المنظمة على حشد أنصارها لتسيطر على أنشطة المساجد وتنافس الإمام. وعن طريق قيام بعض أعضاء هذه المجالس بالإنفاق على المسجد أو الإشراف على التبرعات (التي ينال الإمام جزءاً منها وفق القانون) فإن الأئمة شعروا بأن ذلك يمس كرامتهم، كما شعروا سابقاً.
كما أن بعض أهالي المساجد والعائلات التي تدير المساجد، وبعض المنتمين للطرق الصوفية ضعيفة التنظيم، رأوا أن ذلك قد يفتح صراعاً على المساجد التي تقع تحت سلطتهم تاريخياً وأن عملية الانتخاب قد تصب لصالح الإخوان وحلفائهم الذين يتمتعون بشبكة قوية. كما أن البعض قال إن الإمام المعيّن من قبل الوزارة الإخوانية قد يحابي أبناء تنظيمه في ضمهم لعضوية الجمعية العمومية.
كما أن القرار أثار حفيظة بعض الأئمة والعلماء وقالوا إنه بهذه الطريقة سيكون للإسلام "كنائس" حسب المناطق، وللكنيسة عضوية محددة وللأعضاء صلاحيات معينة، بدلا من أن تكون كل المساجد لكل المسلمين.
قرار انتخاب مجالس إعمار المساجد لم يحل المشكلة ويخفف الصراعات بل أججها، لأنه كان ترقيعاً للإدارة المركزية، ولأنه اصطدم بمفهوم "مسجد كل المسلمين" وهو مفهوم مركزي، ولكنه جعله فقط "مسجد كل المسلمين في هذا الحي" أي أنه عندما حاول منح حرية للجماعة الفرعية من المسلمين فإنه اعترف بها فقط كجماعة محلية موحدة، بينما يبدأ الاعتراف بحرية المسلمين، كجماعات وأفراد، بناء على ما يشعرون به فعلاً من تمايز مذهبي وفكري في ممارسة الشعائر وفي الخطاب الديني.
في النهاية، جمدت الوزارة قرار تشكيل مجالس إعمار المساجد، وقامت فقط بتعيين محدود لبعض مجالس الإدارات.
وبعد احتجاجات 30 يونيو 2013 ضد سلطة الإخوان، ثم عزل الجيش للرئيس مرسي في 3 يوليو ثم إقالة الحكومة، فإن الحكومة الجديدة المدعومة من الجيش ألغت قرار مجالس إعمار المساجد تماماً وحلت كل مجالس الإدارات التي تم تعيينها في عهد حكومة الإخوان وعيّنت بديلاً لها مجالس بها وجوه النخبة الأزهرية التقليدية بالإضافة لكوادر شابة من حركات الأئمة المناهضة للإخوان.
وبالتوازي مع حملة أمنية كبيرة شملت القبض على عشرات الأئمة وإحالتهم للمحاكمة بتهمة التحريض على العنف، أصدرت الوزارة الجديدة قرارات إدارية بإحالة عشرات آخرين للتحقيق، والوقف عن العمل، أو الفصل نهائياً، وألغت تراخيص خطابة الآلاف، وأيضا أصدرت الوزارة قرارات صارمة وغير مسبوقة مثل توحيد موضوع خطبة الجمعة في كل المساجد، والإعلان عن نية الوزارة إخضاع كل المساجد لإدارة الوزارة، وكتب الوزير الحالي محمد مختار جمعة مقالاً خلط فيه بين "وحدة الصف الوطني" وبين وحدة كل المسلمين في شعائرهم الدينية نظراً للظروف الصعبة التي تمر بها البلاد، في إشارة للصراع السياسي بين الجيش والدولة من جهة، وبين الإخوان وحلفائهم وبعض المجموعات الجهادية العنيفة من جهة. وقال إن الفقه الإسلامي يجعل لـ"ولي أمر المسلمين"، أو من ينوب عنه الولاية على إقامة الصلاة وسائر الشعائر، ولذلك فإن الوزارة هي المسئولة عن إدارة كل المساجد، ومن حقها فرض موضوع موحد لخطبة الجمعة على كل الخطباء في كل المساجد.
هناك خطاب إسلامي تقليدي يفخر أنه لا سلطة دينية في الإسلام، لا كنيسة ولا كهنوت ولا طبقة رجال دين تتحكم في الحياة الدينية للمسلمين فضلا عن حياتهم السياسية. يستند هذا الخطاب أن العقيدة والفقه الإسلاميين لا يتضمنا فعلاً الإشارة إلى تشكيل محدد لطائفة دينية للمسلمين وصلاحيات لرجال دين. وفضلاً عن أن الممارسة التاريخية لم تكن كذلك، ولكن يبدو أن الإشكال الأساسي هنا هو أن العقيدة والفقه الإسلاميين، ومعهما الممارسة التاريخية، قد افترضا واعتمدا بشكل جوهري على وجود "جماعة سياسية واحدة للمسلمين" لها ولاية على شئونهم الدينية وعلى طبقة علماء الدين. وبديل ذلك إما أن يتم الانتقال من "دولة المسلمين" إلى دولة حديثة تتبنى المواطنة فتختفي الولاية السياسية على الشئون الدينية فينفتح الباب للحرية الدينية. وإما أن تستمر الدول الحديثة في وراثة تلك الولاية من دولة الخلافة.
ويبدو أن الدول الحديثة التي خلفت دولة الخلافة الإسلامية لا تزال ترث هذه الولاية وتعتمد عليها في شرعيتها السياسية وتؤكده عبر مؤسسات دينية رسمية تحتكر إدارة الإسلام قانوناً، وتهندس سياسات إدارته باعتبار أن الوحدة الدينية للمسلمين هي جزء من الحفاظ على الوحدة السياسية والصف الوطني، وتلغي قانونياً أي فاعلية وحرية لجماعات المسلمين وأفرادهم في حرية ممارسة الشعائر بعيداً عن الإدارة المركزية للدولة وبعيداً عن توجه ديني مركزي يوصف بأنه "صحيح الدين".
ويبدو أن رفض الاعتراف بالتنوع داخل الإسلام، وبفاعلية جماعات دينية متنوعة تدير شئونها باستقلال نسبي، لأن ذلك قد يعني تفريق المسلمين إلى "كنائس"، قد أفضى قانونياً وسياسياً إلى تقييد الحرية الدينية لكل المسلمين تحت سلطة "كنيسة واحدة"، وحل جهاز الدولة محل هذه الكنيسة مستنداً في ذلك إلى مؤسسة علمية مرتبطة بالدولة كالأزهر، ومؤسسة عملية هي جزء من الحكومة كوزارة الأوقاف، وإلى جهاز أمني يراقب يضمن الولاء السياسي/ الديني.
ولأن تلك السيطرة وتلك الكنيسة لم تنجح أبداً في أن تكون هناك وموحدة وفاعلة بنجاح، وظل التنوع دائماً هناك خارج القانون، فإن الصراع بين القوى التقليدية في الدولة المصرية وبين التيارات الإسلامية على المجال الديني يبدو في أحد أوجهه بحثاً عن ترتيبات ناجحة لـ "كنيسة الإسلام".
[إضغط/ي هنا للإطلاع على النسخة الانجليزية]
[ تنشر ضمن اتقاقية شراكة وتعاون مع"Immanent Frame" ]